منحهم الدم والروح .. ومنحوه اللامبالاة والإهمال
( الحدث الجنوبية ) تقــرير / فــهد البرشاء
من منا لا يعرف شيخ الشهداء توفيق علي منصور الجنيدي المكنى بــ( حوّس), الرجل الذي أنبعث من البساطة والتلقائية ومن بين الكادحين المجدين الذين حفروا بأناملهم الصخر وشقها بأظافره ليكسب قوته وقوت أسرته دون أن يسأل الناس إلحافا أو يدنس( كفه ) بمدها لمن لايكترثون بحاجة الناس أو معاناتهم..
رجل أشهر من نار على علم, ولكن ليس بالمناصب أو الجاه أو السلطان أو ( البلطجة) أو التعالي أو الغرور أو التكبر, وإنما شهرته نبعت من حبه لمدينته وأهله ومحافظته رغم بساطته ورغم انحداره من أسرته بسيطة جدا ومتواضعة لم تشتهر بالمال أو السلطان..
في حواري مديرية لودر ترعرع وبين دورها وأزقتها (شب) ومنها أستقى حبها وأرتشف عشقها وأخلص لها, ولم يكن يعلم وهو ينمو وربيعات العمر تمضي به أن يكون ذلك الرجل الذي يُشار إليه بالبنان ويصبح حديث الناس في حلهم وترحالهم في محافظة أبين خصوصا واليمن عموما بل وحتى في بعض البلدان العربية التي ذاع فيها صيته..
الرجل الذي كان بائعا (للفواكه) في سوق لودر والذي أشتهر بالصدق والأمانة ودماثة الأخلاق وحُسن السجايا وطيب المعشر والتعامل مع الكل دون استثناء أكان في تعامله في البيع أو الشراء أو في الحياة الشخصية والعامة مع الآخرين, غداء بين (عشية) وضحاها (المنقذ) بعد الله لمدينة كانت على شفير الهلاك والفوضى والعبثية واللا أمن واللأ أمان واللأ أستقرار من قبل من حاولوا أن يجعلوا منها ساحة لتصفية الحسابات ومسرح تمارس فيه الجريمة بكل أنواعها وفي أبشع صورها..
قـــالوا عنه !!
يقول عنه الشيخ/ حسن غالب أحد الشباب الذين عاشروه ( لقد عرفته قبل أن يكون قائدا للجان الشعبية جوادا كريما يفرح بضيوفه ويحتفي بهم ولا يبالي أكانوا صغارا أم كبار, فالضيوف عنده ذا مقام واحد في المنزلة والكرم..
ويضيف : أتذكر مرة ( خطبت ) للجمعة فأخذني أنا وأحد الشباب إلى منزلة للغداء وحين أكملنا غدائنا لم يكتفي بهذا بل فاجئنا ونحن خارجون من المنزل بوضعه للفواكه في جيوبنا لنأكلها في الطريق أثناء عودتنا..
ويردف عنه حسن قائلا: لم يكن يبالي بحياته أو يكترث بها, ولم يخف قط أو يرتهب من شيء فحين كان قائدا للجان الشعبية بلودر كان يسير في سوق لودر دون حراسة أو رفاق, وهذا نابع من ثقته بالله وإيمانه المطلق بإن الله هو من يقبض الأرواح وهو من يمدها في العمر..
ملك الشجاعة فهي طوع زمامه ** ولغيره جُمحت وليست تركبُ
ويكمل بالقول: كان الشهيد حوّس يعول الكثير من الأسر سرا ويصرف عليها دون أن تعلم أن من يعوّلها حوس فكانت (تقتات) دون أن تدري عن مصدر هذا, وحينما توفاه الله وانقطعت عنهم أدركوا أن للشهيد حوّس صلة بهذا وأنه هو العائل لهم..
ويختتم حسن حديثه: لقد رأيته بعد مماته بأيام والناس يقولون جنازة (حوّس) هناء في هذه الغرفة أدخل عليه, فلما دخلت عليه وهو ممدد فقبلته سبع (قبلات) على جبينه فأستوى جالسا, فقلت ألست قد مت ؟ فقال لي بالحرف الواحد ( لاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)..
ويقول أيضا الأستاذ/ جهاد حفيظ عنه ( نتوقف اليوم عند شخصية ذات كريزما فريدة وقيادي بالفطرة عرفته إنسان وأخا صغير لي, كان ذو فطنة غير عادية يحب إصلاح ذات البين وكان إجتماعيا بإمتياز, بارزا بين اقرانه كونه يتقدم الإعمال الخيرية إخلاصا وتفان, لا أجد أناملي تقودني إلى أعذب المعاني والكلمات في حق شخصية تناسى له الكثيرين في زمن تندر فيه تلك الهامات الشامخة حين تأفل مثل هكذا شخصية بحجم (حوس)..
ويضيف : وحين شقينا الطريق سويا مع رفاقنا البواسل وتشكيل اللجان الشعبية في لودر الباسلة برزت شخصية هذا الفذ من الرجال جليا بين زملاؤه حيث كان أكثر حكمة وقياديا من الطراز الأول رغم تحصيله العلمي المتوسط ولكنه انتشل أوضاع لودر من الحضيض مع رفاقه المغاوير وكان مناضلا مخلصا لوجه الله ومقداما لا يخاف في الله لومة لائم..
وأردف : كان يتقدم الصفوف فدائيا ومقاتلا بلا هوادة , ورؤوف رحيما مع المستضعفين والفقراء على فرشة الغبار التي كان يتملكها في سوق لودر , ولم يكن يطمع إلى مناصب أو مكاسب في دنيا فانية..
وأختتم : مات واستشهد واقفا عل رجليه كشجرة النخيل الشامخة في كبد السماء, ولن يصل في مواقفه الرجولية إلا أولئك الأفذاذ من الرجال..
اللجان .. الفكرة والطموح
وماقيل في شخص الشيخ توفيق (حوّس) من كلام أثلج الصدور وأسر الأفئدة والألباب كإنسان عاش بين البسطاء وأنبعث من أوساطهم ربما لم يقل في أحد قبله ولن يقال طالما والرجل أمتلك صفات الإنسانية قبل القيادية هو من جعل الأنظار تتجه صوبه وتضعه في أعلى مراتب التقدير والاحترام من قبل الكل دون استثناء, ودون أن يعلموا أن الأقدار تخفي في طياتها لهذا الرجل مسئولية تحمّل أمن وأمان المدينة وسكينتها واستقرارها, وأنه سيغدو بفعل المستجدات التي طرأت على السطح هو المرشح الوحيد ليقود تلك المرحلة التي غدت اليوم علامة فارقة على مستوى اليمن خصوصا بل والوطن العربي عموما..
وفعلا مضت الأيام وحب الرجل يكبر في قلوب الناس وينمو مع ربيعات العمر حتى أتت اللحظة الحاسمة التي أجبر الاقتتال والاحتراب بين أنصار الشريعة وأفراد الجيش الآلاف من أبناء لودر (نساء ورجالا وأطفال وشيوخ ) على مغادرة المدينة تحت قوة السلاح واحتدام الصراع وذهاب الضحايا من أبناء لودر الذين لا ناقة لهم ولاجمل في هذا الصراع وهذه السياسية القذرة التي يدفع ضريبة همجيتها البسطاء..
وقد رأينا في تلك الأحداث المؤلمة والمبكية التي أدمعت القلوب قبل العيون في الــ18/8/2010م وتحديدا في شهر رمضان للعام1431هـ حينما احتدم الصراع ونزح معظم أبناء المدينة وتفرقوا بين قرى ومناطق المنطقة الوسطى هربا من الموت والمشاكل المصطنعة التي أوجدت تلك الأطراف المتنازعة في المدينة..
ومن هناء وبعد أن ذاق الأهالي مرارة النزوح وتشردوا عن مدينتهم جاءت فكرة إنشاء ملتقى شباب لودر أو (اللجان الشعبية) كعمل طوعي (خدمي) يرمي في المقام الأول والأخير لخدمة المدينة وحفظ الأمن والأمان وتجنبيها أي صراعات مع أي طرف أكان حكومي أو قبلي أو من كان هجوم أو فوضى قد تحدثها تلك النزاعات التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى..
فقرر مجموعة من الشباب والوجهاء في المدينة وعلى رأسهم شيخ الشهداء (توفيق حوّس) أن ينشئوا هذه اللجان للقيام بحماية المدينة وإصلاح أوضاعها ومراقبة كل المستجدات فيها بل وتسيير شؤونها بعد أن فقدت الدولة هيبتها فيها آنذاك ولم يعد لها أي وجود خصوصا بعد أحداث العام2011م ..
ونجح الشيخ توفيق حوّس وبمعيته الشرفاء من أبناء المدينة في إقامة هذا الملتقى الشبابي العملاق والسير به نحو النجاح بخطى واثقة وقوية وبمراحل متدرجة ابتدأت بتطهير المدينة من العناصر المسلحة وجليها تماما من حواري وأزقة لودر لتغدوا لودر في الــ25-7-2011م خالية تماما من العناصر المسلحة بعد أن قام الشيخ حوّس والشباب المتطوعين بمداهمات لعدد من الأوكار التي كان يختبئ فيها المسلحون..
حوّس .. والفجيعة
وظل الشيخ توفيق يصول ويجول في المدينة ويسهر على حمايتها ورعايتها ليل نهار من خلال إقامة مناوبات ليلة وحراسة لمداخل ومخارج المدينة في تناوب وتناغم ونسيج شبابي وإنساني أعطى المدينة رونقا وطابعا أمنيا كبير شعر به المواطنون وكل الزائرين لها..
ولعل الجميل في الشيخ توفيق أنه كان ذا حس فكاهي وكوميدي أضاف طابعا مسليا على الملتقى (ورغّب) الكثيرين في الالتحاق به, بل وأزداد حب توفيق حوّس في قلوب الكل لبساطته وإنسانيته ودماثة أخلاقه وحُسن سجاياه..
إلا أن القوى الظلامية لم ترد أن تكتمل فرحة لودر, ولم ترد لهذا الرجل أن يهنئ بحياته أو يكمل مشوار الأمن والأمان والاستقرار الذي بدائه والذي عاد بإيجابية لم تعهدها أي مدينة قبل, خصوصا أن أبناءه هم الحماة, وهم الحصن والحصين والدرع المتين الذي تحتمي خلف أسواره المدينة..فكانت الفاجعة التي حلت بساحة أبناء لودر والتي كان من المتوقع أن تحدث في أي لحظة لكن لم يكن الكل يريدها أن تحدث على الإطلاق..
ففي تاريخ 2-12-2011م وتحديدا فجر يوم الجمعة وبينما كان الشيخ توفيق ذاهبا للمسجد برفقة حارسه الشخصي علي حوشان (أنفجرت) فيه عبوه (ناسفة) زُرعت له ليصاب هو ويقضي نحبه حارسه (حوشان), ونقل الشيخ توفيق إلى البيضاء ثم إلى صنعاء لخطورة حالته الصحية ومكث ثلاثة أيام ليكون يوم الاثنين الموافق الــ5-12-2011م هو اليوم الذي مُنيت فيه لودر بخسارة عظيمة وجسيمة تزلزلت لها الأبدان وذرفت من هولها الأجفان وبكت القلوب دماء واكتوت بنار الحسرة والحزن والألم..
وأدرك الكل أنه رحل وفاضت روحه إلى بارئها ليتركه خلفه أم ثكلى تندبه, وزوجه تنوحه , أطفالا يشكون البين والفراق ولوعة الحرمان من أبيهم الذي كان الحضن الدافئ والصدر الحنون واليد الحانية التي تدقدق عليهم من حنان الأبوّة, لتبدأ مع رحيله رحلة العناء لأسرته التي كان هو الراعي والكفيل لها بعد الله جل في علاه, وتبدأ فصول التجاهل والإهمال من قبل الكل لرجل كان نقطة التحول والبداية لحياة فضلى لمحافظة بأسرها..
بداية معاناة أسرته بعد رحيله
ورغم هذا كله, ورغم كل ما قدمه للودر خاصة ولأبين عامة, ورغم التضحيات الجسام التي قدمها الرجل, ورغم أنه يعد المؤسس الأول والقائد الأول للجان الشعبية في لودر التي خاضت حروب عده مع العناصر المسلحة أنتهت بنصر مؤزر وامتدت هذه النجاحات والانتصارات للمحافظة التي كانت أيضا تحت وطأة المسلحين, لتنتصر أبين وتستمد نصرها من لودر البطولة ومن روح الشهيد توفيق حوس..
رغم هذا كله كما أسلفنا لم يحصل الشهيد على أبسط حقوقه ومستحقاته أسوة بباقي القيادات في اللجان الشعبية الذي لحقوا به, ولم يكترث أحد بأسرته ولم يلتفتوا لها على الإطلاق, إلا (بفتات) لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يليق بقائد (فذ) قد الغالي والنفيس لأجله مدينته, بل وقدم روحه ودمه فداء لها..
لتغدوا تلك الوعود التي تلقتها أسرة الشهيد من رئيس الجهورية ووزير الدفاع السابق محمد ناصر مجرد (حبرا) على ورق محتها الأيام السنين, ووعود أشبه بوعود( عرقوب), ولم تعطى له تلك الدرجة التي وعدوه بها (كقيادي) وإحالة راتبه للبريد كرمز ناضل من أجل الأمن والأمان, وكمؤسس لكيان شعبي حقق الانتصارات تلو الانتصارات, لتظل أسرته ومنذ وفاته تستلم هذا (الفتات) من اللجان الشعبية بلودر..
بل الأدهى والأمر والمؤلم في ذات الوقت أن التكريم الذي حظي به أبطال ( ملحمة السيوف الذهبية) في محافظة أبين تجاهل كليا الشهيد (حوّس) ولم يعر أسرته أي اهتمام أو (يلتفت) إليهم ويوليهم شيء من هذا التكريم الهش الركيك الذي فقد رونقه وجمالياته حينما تجاهل هامة قيادية قدمت الكثير للمحافظة وأسست البنية التحتية والقواعد القويمة لهذا الكيان الشعبي الهام جدا والذي غدى اليوم كيان معترف به في حفظ الأمن والأمان..
منـــاشدة
أسرته التي قوامها 3أناث وذكر وهو علي الذي لم يتجاوز بعد ربيعه الثامن وزوجته وأمه لا تطالب بالكثير ولاتريد أكثر مما تحتاجه أي أسره قدمت أغلى ما تملك من أجل أن ينعم الكل بالسكينة والأمان وراحة البال, ولا ترجو ممن (لايخافون) الله خيرا أو فائدة أو عائد, وإنما حلمهم أن لا يغدو هذا الرجل في خبر كان ومجرد (ذكرى) لفها النسيان, ولم يعد أحد يذكر منها شيء , رغم أن ما ينعمون به من جاه وسلطان ونعيم واستقرار هو بعد فضل الله جل في علاه يعود لهذا الرجل ولحنكته وصلابته وأمانته ونزاهته..
أسرته تناشد رئاسة الجمهورية ووزير الدفاع محمود الصبيحي أن يمنحوا الشهيد حوّس الدرجة التي يستحقها في اقرب وقت ممكن وأن تحظى أسرته بحقوقه التي ضاعت في (تلابيب) النسيان والتجاهل واللامبالاة..
وهي فرصة أجدها لأوجه رسالة لكل الخيرين في لودر الأبية من قادة اللجان والسلطة المحلية فيها وكذلك محافظ المحافظ وقائد اللجان بأبين عبداللطيف السيد أن يلتفتوا إلى أسرة الشهيد حوّس وأن يعيروها شيء من الاهتمام, ليس من قبيل الصدقة أو الشفقة ولكن من منطلق الخير الذي قدمه للمدينة وللمحافظة عموما, وأن يسعوا لتحسين وضعه المادي والأسري وإعطاءه ما يجب أن يعطى له كقائد منحهم روحه ودمه..
فذكرى أستشهادة تمر سنة تلو الأخرى وكأنها يوما عابرا لا يمثل للودر وأهلها أي شيء, وكأن الذي رحل مجرد رجل على الهامش لم يبذل الغالي والنفيس لمدينته وأهلها..
تذكروا جميعا أنكم ستقفون بين يدي الله وستحاجكم دماء من تجاهلتم ذويها ولم تلقوا لها بالا أو إهتمام..
أتمنى أن تجد مناشدة أسرة الشهيد قلوبا ( لينة) وأفئدة ( رقيقة) وآذان لا تضع في أحداها طين والأخرى عجين كي لا تسمع أو تعي ما يدور..







